مشاركة :
هذا ما ينقصنا؟ الدكتور علاء الدين آل رشي. مدير المركز التعليمي لحقوق الإنسان في ألمانيا
الوطن ليس جدران عزلة أو جغرافيا موصوفة بفكرة محدودة، الوطن أمّ وكلنا فيه ينبغي أن نكون أبناء وشركاء في الآلام والآمال والأشواق والأحلام وحتى في الواجبات والحقوق. ليس من حق أحدنا أن يمتحن الآخر في قوميته أو طائفته كي يمنحه حق الانتماء إلى هذا الوطن. كما أن استنبات العشب الشيطاني الكاره باسم العلمانية أو الدين أو الوطنية أو القومية لن ينتج عنه إلا الفتن والحرق والدم. كما أن تسييد ألفاظ التعميم على الآخرين والنقاء الذاتي لأنفسنا وتغليب لغة الثأر والانتقام هي هلاك للعباد والبلاد وهو مخطط من لا يرحم، مخطط شرير.
لم يعد من المقبول اعتماد فكرة الحياد والتغاضي، أو التعامل مع ما هو كائنولا تبريره أو شرعنته أو الاكتفاء بالغمغمة أو التعميم أو الإجمال، وتبرير ذلكبأنه شارة خير و دلالة حكمة.
كما أن قول [لا] للخطأ، لا يعني هدر القيم العادلة، والانغماس بكل المقابحباسم فضيلة الكف عن الخطأ.
إن استنكار القبح الجماعي أو الفردي ينبغي أن يبنى على:
1- قيم قانونية وليس مزاجية فردية.
2- خلق وطني لا ينحاز إلا لفكرة السلم الأهلي والعدالة الاجتماعية.
3-تقوى إيمانية، تنبع من رحمانية الكلمة، وراشدية المسلك.
4-صرامة أخلاقية تحتمي بالوضوح والشفافية، ولا تمالئ أحداً، ولاجهة، ولا طرفاً.
دينياً إن الله لا يصلح عمل المفسدين، وإن طاعة رب السماء لا تكون بخرابأمجاد الأرض، ولا بالقتل لخلق الله، فالله لا يهدي كيد المجرمين، الذينيغتالون الحياة ولن يصلحوا وسينالهم عقاب الله.
وواقعياً كل عنف يجر العنف، وهكذا يسقط الجميع في دورة العنف الرديئة،وكل دم يسيل يحفر قبراً، والدم يعمق الفوضى، ويخنق الإنسان، ويحاربالقيم، والقوميات، والأديان، والعمران.
إن ذلك كله يفرض علينا تفكيك كل المستندات والروافع الداعمة للتطرف منالرايات العلمانية أو القومية أو الدينية أو الوطنية والتحالفات الإقليمية، التيتغذي فكرة التسليح الدامي ضد بعضنا البعض.
إن التشافي من غواشي التمزق والانشطار والطائفية والاقتتال تكون من خلال لجم الأنا المتورمة والتلاقي على العفو والتسامح ونسيان ما فات واستحضار ثقافة بعد النظر والخروج من الخلاص الطائفي أو القومي أو الفردي ( الغبن الشخصي) إلى فضاء المجموع، كما ينبغي ملء الكراسي حول الطاولة المستديرة، العربي والكردي والعلوي والسني والدرزي والشيعي والإسماعيلي واليزيدي والمسيحي والشركسي والأرمني والتركماني والآشوري وسائر المكونات الأخرى، كما أنه لا طائفة كريمة ولا طائفة لئيمة، كما علينا أن نخرج من فكرة الخيار الواحد، بل فتح النوافذ من أجل خيارات عديدة وهذا ممكن إلا على من احتكم إلى الأنا المتضخمة والسلاح وشيطنة الآخر. وعلى الرغم من كون النخب والقيادات هي المسؤولة عن فك كل تلكالألغام التي زرعت من قبل الأصدقاء والأعداء والنظام والحلفاء لكن للأسفالكثير من تلك الزعامات ترعى الفتن بل إن بعض النخب في تحول دائمحسبما يطلبه الممول وجمهوره.
إعلان التجريم لكل متطرف لا ينبغي أن يرتبط بدعم خارجي، أو داخلي، ولاإثارة إعلامية، ولا دعاية حزبية، ولا صورة لكاميرا، ولا بتكليف من جهة، ولالتحقيق مصلحة، بل هذا مطلب أبيض لا سوء فيه. فيه تسع آيات للشعبالسوري، أولها: مخاصمة القيم تعني مقاربة من ظلم وهذا يشابه أخلاقالقصر وهو ما يؤخر النصر. فكيف ننتصر على ظالم بأخلاق ظالمة؟ وهلنؤسس لمجتمع الرشاد ونحن نمعن في التيه؟
وثاني الآيات: إن النجاح في إدارة الذات يعني القدرة على إدارة العقول والعواطف وتحقيق المصالح. وثالثها: الانتصار للنفس سوف يقود إلىالإفلاس والحبس بالأنا وسيقابله علل نفسية لا ترحم.
ورابعها: الذين يحلمون بالحصول على كل شيء ينتهي المطاف بهم بخسارتهم كلَّ شيء.
وخامسها: إن الواجب الملح علينا أن نرفض أي انحراف وأي تخريب أوتزييف أو تحريف فلا بد من توقف كل أنواع العنف السياسي سواء منالنظام أو المعارضة، وكلاهما مدان.
وسادسها: رفض العنف الديني الذي يبنى على تخليق دين الطائفة لا دين الأمة. وبذلك يتحول الدين من فضاء مجتمعي عام إلى طائفية متظلمة تتناحر مع الطوائف الأخرى.
وسابعها: العنف القومي مدان وهو عنف يرتكز على استنبات الهوياتالبدائية، وهذا يعني تكوين مجتمع مريض بقومياته.
وثامنها: ينبغي أن نكف النخب عن عنفها، النخب التي تحارب باسم النظامأو مع المعارضة وهما يلتقيان مع الفكر الداعشي القائم على ضيق الأفق ومحاربة النظام بأدواته الظالمة وإحياء فكرة الحزب الواحد والزعيم الخالد.
وتاسعها: نحن لا نجادل في إدانة المتطرفين ولكننا نؤكد على حرمانيةالتطفيف في الحكم على المتطرفين، فليس كل من هو مع النظام هو ضد الشعب السوري، وليس كل من مع الثورة هو مع الشعب السوري، كما أن ليس كل قومي انفصالي، ولا نعلم من أين تسللت هذه المفردة إلى القاموس السوري، إلا أنه تم تفعيلها بذكاء وتم تداولها في الوسط العام إلى درجة أنها تحولت إلى مسلّمة رعتها ماكينة إعلام النظام والمعارضة وبعض الدول المجاورة وغذتها تصرفات بعض المراهقين من صبيان القوميات، وليس كل سني داعشي. ما ينقصنا حقاً هو التخلص من أمراض الحرب واستعادة النسيج الاجتماعي وقوام ذلك كله الرحمة. قيمة فاصلة بين السلم والدم وهيأسلوب الأقوياء وطريقة التحكم بالدوافع وردود الآخرين أيضاً. الرحمة تعني الانضباط الفكري والوجداني ومعانقة العقل للسلوك وكبح العواطف السلبيةالتي تغذي العواصف الدامية ويقابل الرحمة تغول العنف والقسوة، وهياضطراب منفعل يحيد العقل وينتهج الخوف والضعف والبطش المتغطرس.
إن مقارعة المستبد قد يحول الداخل الإنساني إلى شيء من التوحش وهذا ما يحتم علينا ضرورة التخلية والتحلية النفسية والفكرية واستحضار كراهية الاستبداد على المستوى الشخصي أو المجتمعي، فهو لا يحل مشكلة بل يعمقها فلا خير في الاستبداد، إنه كشجرة بلا ظل ونهر بلا ماء وسحابةسوداء لا تمطر. حتى وإن ظن البعض أنه يمكن أن يكون حلاً أو نصراً مؤقتاً.
إن ما نشاهده اليوم من مآسي كبيرة وأوجاع عظيمة لا يمكن التداوي والشفاء منه بحبة مسكن، فلا يمكن فصل قضية ما عن امتداداتها، فقدتكون هي في الأصل قضية اجتماعية، لكن لها أبعادها السياسية ، وآثارهاالاقتصادية، وتداعياتها العسكرية، ويظل المثقف ورسالة (الإعلام) الوعاءالمؤثر
في تكوين كثير من القضايا.
والخيار الجاد اليوم عند السوريين هو خيار العمل المنتج البناء الذي ينطلق من عمليات الإغاثة إلى كراسي السياسة، ومن الشعارات الكبيرة إلى الأعمال الصغيرة الواقعية. إن الانتصار والتعافي والسلامة قنوات مفتوحةبالجملة، وفي ضمنها عقبات جسام، وتحديات عظام، أولاها من داخل النفس
باستطالة الطريق والرغبة في الحسم، إذ لا يرضى قوم إلا أن يكونواالأطراف كلها !
كما أن عقبات الفشل العادي تعرض لكل أحد، ليكتسب من ورائها الخبرةوالممارسة .
وكلما آمنت المكونات أنها طرف مشارك وليسوا هم كل الأطراف، وهو إقرار قاسٍ لكنه شريف، وينمو بالصبر والجلد وشيء من الإعراض عن الفنادق وبريقها والدولارات ولعتها كلما نهض الوطن من كبوته.
إن من أرقی الخطابات السياسية الناقصة والمطلوبة هي " الكل يربح " في سلوك وتطبيق وفكرة واضحة
تتجاوز تسجيل صوت أو موقف آني إلى عمل استراتيجي وصناعة جمهور؛وكذلك مخاصمة المجموعات الإعلامية التي تحترف الفتن والمعارك الخشبية والتلفيق والاتهام والسمن.
علاء الدين آل رشي.
مدير المركز التعليمي لحقوق الإنسان في ألمانيا